((بلاغ)) هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ((بلاغ))

الأحد، ديسمبر 25، 2011

أنا أدري (2)

أنا أدري!! (الحلقة الثانية)


جرى الحديث في الحلقة الأولى عن الاتجاهات الفلسفيّة التي حكمت تفكير الإنسان منذ انعتق من جهله وبدأ رحلة البحث عن أصل الوجود، كما تحدّثنا عن المذاهب الفلسفيّة التي مثّلت الصيغ الفكريّة المُتكاملة لتلك الاتجاهات، ومن الطبيعي اليوم أن نبحث في مشاريع الحياة التي قدّمها كلّ مذهب استناداً إلى نظرته للوجود وفهمه لحياة الإنسان...
وعنوان مشاريع الحياة هو نفسه عنوان المخطّط الثالث الذي كشف النقاب عن ثلاث مصفوفات تمثّل الانتماء الفكري والوجداني والعملي للإنسان وهي: 1-المشروع الإسلامي 2-المشروع العلماني 3-اللامشروع أو (الـ لا انتماء)..
وكنتُ قد وصفتُ المصفوفة الثالثة بـ "اللاأدريّة" وهو وصفٌ غير دقيق في الحقيقة، وقد قادني لذلك -مع علمي به- الهواجس التي تسكنُ أذهان النّاس اليوم حول عنوان "الانتماء وعدم الانتماء" فكنتُ أخشى أن يفسّره الذهن الساذج بصيغ الانتماءات الحزبيّة، والمُراد كما هو واضح بعيدٌ كلّ البُعدِ عن ذلك..

 ما هي اللاأدريّة Agnosticism ؟
اللاأدريّة أو الأغنوستية: هي اتجاه فلسفي يدّعي أنّ الحقيقة في أصل الوجود ووجود الله وغيرها من المسائل الغيبيّة هي أمور لا يمكن التوصّل إلى إثباتها بأيّ حالٍ من الأحوال، وأنّ العقل الإنساني قاصرٌ عن معرفتها أو الجزم بها نفياً أو إثباتاً.. والواضح أنّ أصحاب هذا الاتجاه لم يصرفوا الكثير من الجهد لتشييد هذه الفكرة المتهافتة، بل سارعوا لتعميم حالة الجهل التي يعيشونها وحكموا على العقل الإنساني بالقصور، وهو الذي يدلّنا عبر الاستنتاج البسيط حسب قواعد العليّة (بأنّ لكل سببٍ مُسبّب) على وجود عِلّة عُليا (مُسبّب أو مُوجد) لهذا الكون.. ولذلك لم يلقَ هذا الاتجاه بالاً، بل لم يُعد ضمن الاتجاهات الفلسفيّة المُعتبرة، فهو على أقرب توصيف أوضح حالة انسحاب وهزيمة أمام التفكير المنطقي، فبدل أن يكشف اللّثام عن حقيقة من حقائق الوجود، عمّق حالة الجهل والضياع والتردّد، حتى أنّ أصحاب هذا التوجّه انفسهم انقسموا إلى لاأدريّة ملحدين ولاأدريّة مؤمنين!!! والإثنان ليسوا على يقينٍ من شيء!!

وهكذا يتبيّن أنّ (اللاأدريّة) ليس عنواناً مُناسباً للمصفوفة الثالثة من مشاريع الحياة، فهو لا يُعبّر عن مشروع عمل أبداً فضلاً أنّه لا يُعبّر عن اتجاه فلسفي مُحترم، ولكن لا يفوتنا الشبه الكبير في أداء أصحاب مشروع "اللامشروع" ومفاهيم اللاأدريّة التائهة، ويمكنني القول بأنّ أصحاب اللاإنتماء لديهم رواسبُ معيّنة من اللاأدريّة بشكلٍ أو بآخر، أفقدتهم الثقة في اختيار مشروعٍ حقيقي للحياة، وفضّلوا السلامة مع الجهل، على خوض تحدّيات العلم والمعرفة...

بعد هذا الإيضاح لِنَعُد إلى مخطّطنا؛ الذي حكم بأنّ المشاريع ثلاثة: إسلامي وعلماني وفراغ في مساحة المشروع الثالث!! وهنا تبرزُ أسئلة كثيرة أهمّها؛ لماذا هذه المشاريع الثلاثة فقط؟ وما هو تمثيل كلّ مشروع منهم؟ وكيف أختار مشروعي؟ وما هي استحقاقات كلِّ واحد؟
والبداية من الاستحقاقات، فالحقيقة الواضحة أنّ أكثر النّاس يختارون المشروع الذي يحمّلهم أقلّ استحقاقات وواجبات ممكنة، وهذا جلي في مسألة الفراغ الذي يعيشه معضم النّاس، فاللامشروع هو أقلّهم استحقاقاتٍ وفي المُقابل أقلّهم ضمانات، وقد اعتنقه النّاس طلباً للسلامة فما سلموا!! فهذا الخيار يُبعدكَ عن دائرة المواجهة والتحدّي خصوصاً فيما يتعلّق بإدارة شؤونك وشؤون النّاس، فهو يقنعك بالخضوع لكلّ من هبّ ودبّ للحكم والتسلّط عليك، وأن ترضى منه بفتات العيش وأساسيّات الحياة، وأن تكون مفردات العيش (الخبز، الكهرباء، الماء، الغاز) هي أكبر همّك، هذه نظرة خاطفة لمشروع الاستحمار والانهزام هذا، وسطّر من مثلها الكثير، اللّطيف أنّ المشروع العلماني يستفيد من هذه الذهنيّة ويقتات عليها، فهو لا يكلّف النّاس أكثر من هذه الهزيمة، ويُقنّن لهم كلّ مفردات الحياة بطريقة سدّ الرمق، أمّا المشروع الإسلامي فاستحقاقاته من الدماء كثيرة وهو لا يرضى بحالة الجهل والهزيمة بل إنّ هدفه الأساس هو رفع حالة الوعي والإدراك ليحقّق الغاية الأسمى من وصل النّاس بربّهم وتنظيم حياتهم وفق شرع الله تعالى..

ولكن لماذا نحن مُحاصرون في مثلّث هذه المشاريع الثلاثة فقط؟ والجواب على خلفيّة فلسفيّة بسيطة يمتدُّ من حين اختيارك لمذهب فلسفي تؤمن به؛ إمّا المذهب الإلهي في فهم الكون أو المذهب المادّي، إمّا الله وإمّا المادّة، إذا اخترت الله فأنت تختار التكليف، لأنّ المذهب الذي يؤمن بالله يؤمن بأنّه لم يخلق شيئاً عبثاً بل خلقه لغاية وكلّفه باعتناق منظومة من القيم وصاغها له ضمن شريعة محكمة، فالاستحقاق يقتضي أن تؤمن بمشروعه وأن تلتزم هذا المشروع، وأمّا إن اخترت المادّة، فالمادّة لا تكلّفك شيئاً لأنّ أساسها الصدفة والعبث، فلا شريعة تلتزمها سوى ما تصوغه أنت على مزاجك أو ما يصوغه لك ربُّ مذهبك، وهكذا فنحن في الأساس أمام مشروعين (إسلامي ومادّي) والمادّي بوجهيه (الرأسمالي والاشتراكي) يقوم على أساس فصل الدين عن الحياة أو مُعاداة الدين ومحقه وهو ما يُطلق عليه اليوم بـ (العلمانيّة)، وبين هذا وذاك مساحة فارغة لمن آثر أن يكون بلا رأي وبلا إرادة "اللامشروع"..

أمّا من يمثّل هذه المشاريع، فلن أتكلّم كثيراً في المشروع الإسلامي، وأتركُ للقارئ الكريم مسؤوليّة البحث والتنقيب عن خير ممثّل لمشروع الأنبياء هذا، أمّا المشروع العلماني فإنّ أوضح صيغة حزبيّة حكمت باسم هذا المشروع لعقود مضت هو الحزب الشيوعي، فهو الذي مثّل الصيغة الحزبيّة للإشتراكيّة كفكر وللعلمانيّة كمشروع، ولكن لم يُكتب له العمر الطويل، ثم إنّ للعلمانيّة في الوطن العربي تمثيل آخر أكبر اتساعاً وهو العلمانيّة الاستبداديّة والحكومات العربيّة التي تهاوت مؤخراً مثالٌ واضح لتلك الصيغة، التي سقطت تحت صيحات التكبير والصلاة في الميادين وشعارات الإسلاميّين المضطّهدين طوال العقود الماضية...

كإنسان مسلم إنّ اختيارك لمشروع من مشاريع الحياة والتزامك به لا يحدّد مصيرك في الدنيا فقط، بل يحدّد مصيرك لما بعد الدنيا، ولذلك عليك أن تختار بدقّة، وأن لا تهرب من الاستحقاقات التي تُكلّف بها...

أذكر أخيراً أنّ الدكتور سألني عن المشاريع في المخطّط، وأشار مُبتسماً للمشروع الثالث، ثم التفت إلى الحضور مُخاطباً: من منكم معه -في المشروع الإسلامي-؟؟ ساد صمتٌ مُطبق قاعة الدرس، فاجأني الموقف كثيراً وأحرجني كثيراً، التفتَ إليّ الدكتور وقال: أرأيت، أنت فقط وحدك، والجميع "لا أدري" فقط أنت تدري!! فضحك الجميع!!
أجبته: الطلبة جميعهم إسلاميّون ولكنّهم قد لا يستطيعون التعبير عن ذلك... واقعنا كلّه إسلامي ولكنّه أبكم، وأصم، وهذه هي مُشكلتنا الحقيقة، وما مثال قاعة الدرس إلاّ صورة مصغّرة دقيقة لحال المجتمع الذي نعيش فيه...

أمّا أنا...
فأعلم أنّني لستُ وحدي.. وأعلمُ أنّني أدري.. وأفخر أنّني أدري، وأدري أنّني أدري.. ولا أرضى بـ "لا أدري"
درايتي وعيٌ وفكرٌ وعشقٌ، وانتمائي لربّي عقدٌ وعهدٌ وميثاقٌ غليظ..
صدّقوني لستُ وحدي، معي كلُّ الوجود يسبّحُ باسم ربّك، معي كلُّ الخلائق والوجودات الجميلة، معي "الحسينُ" و"عليٌ" و"محمّد" ... ثمّ كيف أكون وحدي؟!!! لستُ وحدي {... إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}...

3 لمسات طيّبـة:

رسل يقول...

"أذكر أخيراً أنّ الدكتور سألني عن المشاريع في المخطّط، وأشار مُبتسماً للمشروع الثالث، ثم التفت إلى الحضور مُخاطباً: من منكم معه -في المشروع الإسلامي-؟؟ ساد صمتٌ مُطبق قاعة الدرس، فاجأني الموقف كثيراً وأحرجني كثيراً، التفتَ إليّ الدكتور وقال: أرأيت، أنت فقط وحدك، والجميع "لا أدري" فقط أنت تدري!! فضحك الجميع!!"

شخصياً، لا أجده موقفاً مثيراً للخوف أو الحرج، وتلك هي الصورة المتوقّعة وسط مجتمع يعيش حالةً من اللاإسلامية أو "رهاب التدّين" إن صحّ التعبير..

ليست المشكلة في مسألة "اللاّأدري" التي يتبنّاها الغالبية في هذا المجال، إنّما تتّجسد في قضيّة الـ "لا أريد أن أدري" التي تسيطر على أذهان معظم النّاس بحكم التشويش الفكري الذي شهدته البلاد طيلة الأعوام الماضية..

وما أقوله أنا :

لن أخشى من أن أكون وحدي هن يدري هنا.. ولكنّ رسالتي ومسؤوليّتي تقضيان عليّ بأن لا تبقى الدراية منحسرةً عليّ..!

قد لا أتّفق معكم حول عبارة "واقعنا كلّه إسلامي"..

واقعنا يفتقد إلى الكثير من الإصلاحات التي قد يصعب علينا إجراؤها ما لم نعترف بأنّه يفتقد إليها حقّاً..!

إنني أرى أنّ مزيدٍ من الهمّة الرساليّة والحركيّة الإسلاميّة كفيلتان بتحسين الواقع الذي أكاد أصفه بأنّه واقع "مسلم-علماني" إنّ صحّ التعبير..

وفي الختام أقول كما يقول سيدي ومولاي أمير المؤمنين (ع) : "لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلّة سالكيه"

لأنّ الحقّ هو الحقّ... ثابتٌ على اختلاف العصور والشخوص والأزمان..

والحمد لله ربّ العالمين..

نور الهدى يقول...

أجبته: الطلبة جميعهم إسلاميّون ولكنّهم قد لا يستطيعون التعبير عن ذلك... واقعنا كلّه إسلامي ولكنّه أبكم، وأصم، وهذه هي مُشكلتنا الحقيقة، وما مثال قاعة الدرس إلاّ صورة مصغّرة دقيقة لحال المجتمع الذي نعيش فيه...

نعم هذه هي الحقيقة ,مجتمعنا إسلامي لكنّه أبكم وأصم.....
*دّمتم للإسلام

بـلاغ الحسـيني يقول...

"فاجأني الموقف كثيراً وأحرجني كثير"
هذا لا يعني الخوف أبداً.. وشعور الحرج في هذا الموقف نشأ لطبيعة موضوع النقاش الذي يقتضي في النهاية اقناع الطرف الثالث "المُستمع"..
لقد استفاد الدكتور من حقيقة حالة السذاجة وشعور التخوّف لدى الطلبة في للإيحاء بأنّ كلّ محاولاتي للإقناع باءت بالفشل..

أضف أنّني كنتُ أركن إلى خمسة، أو أربعة، أو ربّما ثلاثة، أو قل اثنين من الطلبة بأن يكون لهم دورٌ داعمٌ للخط الذي تآلفنا عليه، ولكن حتى ذلك الواحد لم يفعل!!!

كانت تلك هي المفاجأة الأبرز ^__^

أمّاقولكم:
"قد لا أتّفق معكم حول عبارة "واقعنا كلّه إسلامي".."
فرؤيتكم صحيحة من نظرة للواقع في أدائه.. وهذا ما أشرتُ إليه صراحة في الفقرة:
"فاللامشروع هو أقلّهم استحقاقاتٍ وفي المُقابل أقلّهم ضمانات، وقد اعتنقه النّاس طلباً للسلامة فما سلموا!! "

فالنّاس في وجه "الاستحقاقات" و"التكليف" يفضّلون الراحة والدعة وبالتالي لا يتبنّون المشروع الإسلامي من حيث الأداء..
ولكن مجتمعنا نفسه ذو الأداء السلبي، يحملُ وجداناً وعاطفة بصفة إسلاميّة، ونستطيع التحدّث عن ذلك في مشاهد معيّنة من حياته، كما جرى في الانتخابات في المدن الجنوبيّة والتي اختارت مرشّحيها في دائرة البديل الإسلامي... ولذلك مجتمعنا إسلاميٌ كلّه "وجدانا" على نحو الإجمال.. ولكنّه يرتقي وعياً وأداءً ليحمل هذا العنوان بجدارة..

وبين الوجدان الإسلامي والأداء الإسلامي مساحة واسعة للعمل الدعوي تنتظرنا جميعاً...

بارك الله بكم أختي الكريمة..
أستشرف المستقبل فأجدكم صاحبة الكلمة والدور الإسلامي المهم..
طِبتم نفساً..

إرسال تعليق