((بلاغ)) هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ((بلاغ))

الأحد، ديسمبر 25، 2011

أنا أدري (1)

أنا أدري!! (الحلقة الأولى)


نقاشٌ في العمق الفلسفي للإسلام، لطالما أحببتُ نقاشاً من هذا النوع، لأنّه يفسح المجال لنطرح الإسلام فكراً ونظاماً بتجرّد كامل، وبعيداً عن أدوات الروح التي قد لا يعيش معناها الكثيرون، وإن كانت وحدها كفيلة بأن تؤكّد للإنسان - وجدانياً - وجود الله وتربطه به بعلاقة لا يمكن وصفها بمنطق العقل الجاف...
بعد هذه المقدمة التي تؤكّد أهميّة المسلك الوجداني في الدليل إلى الله، بل فوقيّته ضمن حساباتي الشخصيّة، لا أجدُ مأخذاً في أن أقصَّ عليكم حكاية النقاش الذي دار بيني وبين أستاذي حول بعض المفاهيم العامّة للفلسفات التي حكمت تفكير الإنسان منذ بدأ يتطلّع إلى الوجود بعين البحث والتنقيب، ليحدّد موقعه من الكون الذي يحيط به...

في ذلك اليوم تأخّر الدكتور عن الدرس، فاتخذت تلك الدقائق مغنماً لأتعمّد رسم مخطّطٍ على اللوحة يلخّصُ أهمّ العناوين الفلسفيّة العامّة التي تشغل الساحة الفكريّة، مع اعترافي بأنّ المخطط كان ارتجالياً ولا يخلو من الهِنات في مادّته، إن رُمتَ الدقـّة...

بعد أن طالع الدكتور المخطّط الذي رسمته حول اتجاهات الفلسفة والتي لخصّتُها -اجتهاداً- بالعناوين الثلاثة: (السفسطة، والماديّة -بشكلها الحديث:التناقض الديالكتيكي- وأخيراً مبدأ العليّة أو السببيّة)، بدأ النقاش في البحث عن معنى الديالكتيك (الجدل) ومؤسّسه، وكجوابٍ -كنتُ أعدّه في ذهني- كنتُ أتطلّع لشرح الديالكتيك في مفهومه الكلاسيكي و"الهيجلي" الذي يبيّنه الشهيد الصدر في كتابه: فلسفتنا، وقوانينه الرئيسيّة الأربعة (حركة التطوّر، تناقضات التطوّر، قفزات التطوّر، والارتباط العام) وكيف ينظر الإلهيّون الإسلاميّون لها من ناحيتين: الأولى فكريّة يتناولها الشهيد الصدر بالتفنيد في كتابه، والثانية نظرة سياسيّة كنتُ قد قرأتها مؤخراً لفضيلة الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه: مُطارحات في الفكر المادي والفكر الديني، حيث يطرح رؤية نقديّة جديدة يمهدُ لها بقوله: "إنّنا بمراجعة بسيطة نكتشف أنّ الماركسيّة [وهي الشكل المذهبي للماديّة الديالكتيكيّة] لا تبني مواقفها السياسيّة على أساس من تفكيرها الفلسفي وإنّما تحاول أن تجعل من التفكير الفلسفي مُبرّراً لعملها السياسي، ممّا يًحمِلُها في كثير من الحالات على الاعتساف والتزوير لصياغة أفكار تدّعي لها صفة الحقيقة لتكون سنداً لمواقفها السياسيّة..."
وقد طلبتُ من الدكتور أن يسمح لي بأن أقدّم على المنصّة شرحاً موجزاً للديالكتيك فأضمّنه نقدنا الفكري والسياسي -إذ أنّ الإجابة عن سؤال حول الفكرة الأساس للماديّة الحديثة لا يكون بكلمات قصيرة-.. ولكن لأنّ وقت المحاضرة لا يكفي لذلك، ولأنّ الغرض من السؤال -أصلاً- هو اكتشاف مدى إدراكي لما رسمتُ على اللوحة، فلقد أعفاني الدكتور من الإجابة وطالبني بجوابٍ عن مؤسّس الديالكتيك كفرصة أخرى في الاختبار، وقلتُ أنّ (كارل ماركس) لا يُعد المؤسس الأوّل للمنطق الديالكتيكي، بل إنّ (هيجل) هو الرائد في هذا المنطق، استناداً منّي لقول الصدر في كتابه:فلسفتنا، ما نصّه: "وكان (هيجل) أوّل من أشاد منطقاً كاملاً على هذا الأساس، فكان التناقض الديالكتيكي هو النقطة المركزيّة في ذلك المنطق، والقاعدة الأساسيّة التي يقوم عليها فهمٌ جديدٌ للعالم..." فاعترض الدكتور على جوابي وطرحَ إسماً آخر يسبق (هيجل) في تأسيس هذا المنهج، فقلتُ: نعم كانت الماديّة الديالكتيكيّة قبل (هيجل) ولكنّها لم تـَعْدُ كونها أفكاراً متناثرة لا منهج واضح لها، استناداً مِنّي كذلك على قول الشهيد الصدر: "وليس (هيجل) هو الذي ابتدع أصول الديالكتيك ابتداعاً؛ فإنّ لتلك الأصول جذوراً وأعماقاً في عدّة من الأفكار التي كانت تظهر بين حين وآخر على مسرح العقل البشري، غير أنّها لم تتبلور على أسلوب منطق كامل واضح في تفسيره ونظرته، محدّد في خططه وقواعده، إلاّ على يد (هيجل).."

الجميل في الأمر -وللإنصاف أقولها- كانت الابتسامة التي تلوح على وجه الدكتور ونحن نتحاور توحي لي بكثير من المحبّة وإن لم يظهر ذلك للآخرين، لقد كان حواراً فيه الكثير من المشتركات، أذكر أنّه أشار إلى كلمة في اللّوحة مستفهماً، فقلتُ: العِليّة (مبدأ العِليّة أو السبَبِيّة)!! فأومئ بأنّه فهم المُراد منها...

لم يتوقـّف النقاش هنا، فامتدّ الحديث على لسان الدكتور إلى وظيفة الكنيسة وكيف كانت تمثّل إقطاعاً دينياً يبيع سندات الجنّة والغفران للبسطاء من النّاس، وكأنّ الدكتور يحاول أن يسوق الكنيسة كمثالٍ للمؤسسة الدينيّة، بشكل عام، فداخلته بالقول: إنّني أعتبر الكنيسة مؤسسة رأسماليّة، ولا أجدها تعبّر بأي صيغة من الصيغ عن الدين، ولهذا لا يجوز أن تكون مِثالاً للقياس.. استنكر الدكتور ذلك بالقول: وهل يختلف حالها عن المؤسسة الدينيّة في الوقت الحاضر؟! فقلتُ: نعم بكل تأكيد، بل لا مجال للقياس والمقاربة، وأمثلتنا من علماء الدين الإسلاميّين كالإمام الخميني [مفجّر الثورة الإسلاميّة في إيران] والسيّد السيستاني أدلّة قاطعة على أوضح معاني الزهد والإعراض عن الدنيا...
ثم وصل الحديث بيننا إلى (الرأسماليّة) كعنوان من عناوين الماديّة الحديثة، وكنتُ قد رسمتُ مخطّطاً يمثّل المذاهب الفلسفيّة بجانب المخطّط الأوّل، وتضمّن ما يأتي: ( الفلسفة الماديّة وتنتج: الاشتراكيّة والرأسماليّة، والفلسفة الإلهيّة ممثّلة بالمذهب الإسلامي) باعتبار أنّ الفلسفة الإلهيّة قائمة على مبدأ العليّة وعدم التناقض، والفلسفة الماديّة قائمة على التناقض الديالكتيكي، والسفسطة لم تُنتج مذهباً فلسفياً بالأساس، بل لعلّها لا تمثّل اتجاهاً فلسفياً عقلياً (بشكل دقيق)...

فكانت الإثارة هذه المرّة بأنّ الجميع اليوم يمثّلون الرأسماليّة، بما فيهم (أنا)!! حيث قال الدكتور: حتى أنت -مشيراً إليّ- رأسمالي!! فتعجّبتُ وقلتُ: بل "أنا" ألتزم الفكر الإسلامي وأعتزُّ به، فقال -ما مضمونه- : إنّ سعيك العلمي في كليّة الطب من ورائه أن تصبحَ طبيباً وتكون لك عيادة، وهذا عنوان للكسب كإقطاع رأسماليٍ مصغّر...
وقد اكتفيتُ حينها بالقول: ليس كلُّ إنتاج وتبادل منفعي هو إقطاع رأسمالي بالضرورة، فليس كلُّ ملكيّة تعبّر عن الرأسماليّة... استناداً منّي على مفهوم الملكيّة الخاصّة التي أقرّها الفكر الإسلامي بوضوح وقد اهتمّ الشهيد الصدر بتفصيل ذلك في كتابه: اقتصادنا، حيث بيّن حدود الملكيّة الخاصّة في الإسلام، وأوضّح مفهوم الملكيّة العامّة، بشكل لا يقبل النقاش...

بالتأكيد لم ينتهِ النقاش عند هذا الحد، ولكنّني سأعمد إلى تأجيل كتابة باقي القصّة إلى الحلقة الثانيّة من هذه المقالة، والتي ستتناول نقاشنا حول المخطّط الثالث الذي وسمته بعنوان مشاريع المذاهب الفلسفيّة
1- المشروع الإسلاميIslamic ideologue
2- المشروع العلمانيSecularism
3- مشروع اللامشروع
وهو البحث الأهم في مقالتي هذه...

للحديث صِلة،،،

0 لمسات طيّبـة:

إرسال تعليق